يوحنا ذهبي الفم
مولده وصباه: أبصر النور في أنطاكية بين سنتي 345 و349 إلا أن الدكتور أسد رستم يرجح ويقول أنه ولد في سنة 345. كان والده سكوندوس قائد القوات الرومانية في سورية. ووالدته القديسة أنثوسة. توفي والده في السنة الرابعة لزواجه وكان لديه ابنة وابن. فرفضت والدته أن تتزوج بعد ترملها. وتفرغت لتربية ولديها، تربية مسيحية خالصة. فكانت تربيتهم تنضح بعفة وطهارة وإخلاص القديسة اثنوسة. فقال بها الفيلسوف ليبانيوسالوثني: "ما أعظم النساء عند المسيحيين".
تهذيبه وتحصيله: درس يوحنا اللغة والبيان في مدرسة الفيلسوف ليبانيوس أشهر فلاسفة عصره ورئسي مدرسة أنطاكية. فأجاد القديس يوحنا اليونانية التي ساعدتها كثيراً في مواعظه وشروحاته. ولمس ليبانيوس مواهبه، فقال لتلاميذه مادحاً إياه: "لقد كان في ودي أن أختار يوحنا لإدارة مدرستي من بعدي ولكن المسيحيين سلبوه منا" إذ أن يوحنا أصبح قارئاً في الكنيسة في سنة 367. ودرس الفلسفة على يد انذورغاثيوس في أنطاكية أيضاً. وكان أكثر أصحابه المقربين باسيليوس الذي أصبح أسقف رفنية قريباً من مصياف.
زهده وورعه: امتهن يوحنا المحاماة وبهر أقرانه بفصاحته وبلاغته. ثم رغب فجأة بتركها. وكان ملاتيوس الجليل أسقف أنطاكية يرقب تقدم يوحنا في العلم والفضيلة. فلما تيقن من زهده أحله في دار الأسقفية ثلاث سنوات ثم منحه سر المعمودية ورقّأه إلى درجة القارئ. وكان بعض المسيحيون في ذلك الوقت يهابون سرّ المعمودية خوفاً من عواقب الوقوع في الخطيئة بعدها. فآثروا تأجيل ممارسة هذا السر حتى سن متأخرة. أما سبب تأجيل معمودية يوحنا فهو أمر غير معلوم إذ لا يوجد في المراجع ما يقدم لنا الجواب. وقد تكون أحداث أنطاكية هي التي تسببت في هذا التأخر.
وأراد يوحنا أن يخرج للصحراء للتعبد والصلاة والتأمل. إلا أن أمه طلبت منه أن يؤجل هذا حتى ترقد بالرب إذ لم يكن لها معيل غيره. فرضخ لطلبها، ويقول القديس في هذا الصدد: "ما كدنا -هو وباسيليوس- نبدأ بتنفيذ ما رمنا حتى تدخلت أمي، المحبوبة جداً، ضد المشروع. لقد أمسكت بيدي وقادتني إلى غرفتها الخاصة. وأجلستني، وجسلت قربي، على الفراش ذاته حيث شاهدتُ النور لأول مرة. وهنا فاضت دموعها وكانت زفراتها تقطع نياط قلبي وعباراتها العذبة الحنونة تمعن في التقطيع... ومما قالته لي: انتظر فراقي لهذا العالم، ربما يكون قريباً. لقد بلغت سناً لا يُنتظر معه إلا الموت. وعندما تعيدني إلى التراب، وتجمعني إلى أبيك، اذهب حيث تشاء؛ سافر إلى البعيد البعيد، إرم بنفسك في لجة اختيارك فعندئذ ليس من يمنعك. ولكن طالما أمك تتنفس وتتألم لا تتركها ولا تغضب الرب إلهك إذ تلقيني بلا مبرّر وبلا فائدة في لجج من الآلام أنا التي لم أصنع لك شراً. وتابعت: يا بني إذا استطعت أن تنسب لي أني أزيد همومك الحياتية فأنت حرّ من شرائع الطبيعة. دُسها برجليك ولا تأخذ بعين الاعتبار شيئاً واهرب مني كعدوة تنصب لك الكمين... إذا كنتُ صنعتُ بك شراً!!". وكان هذا الحادث بمثابة نقطة الثقل في حياته. من الأكيد الحصول على الطهارة المسيحية يفرض الهرب من العالم. هذه النجوة هي الطريق الأقصر نحو القداسة. ولكنه الذي يدوس برجليه كائناً إنسانياً -إذ يهرب من العالم- فإنه يسدّ على نفسه طريق القداسة إلى الأبد. ولكنه جعل من غرفته في المنزل قلاّية. وعاش حياة الراهب والابن في الوقت نفسه. فتقشف وكرس وقته للصلاة.
ثم أنشأ بالاشتراك مع باسيليوس صديقه أخوية نسكية ضمت بعض رفاقهما في التلمذة أمثال ثيودوروس أسقف موبسوسته فيما بعد ومكسيموس أسقف سلفكية سورية. وخضعت فيما يظهر إلى ديودوروس وكرتيريوس الراهبين الرئيسين في أنطاكية آنئذ.
الراهب: وفي سنة 373 غضب والنس جاش على الأرثوذكسيين فأكره النساك على الخدمة العسكرية والمدنية. واعتبر بعض المسيحيين أن تقشفات النساك ضرب من الجنون. فضحك الوثنيون على الطرفين. فأخذت الكآبة في نفس يوحنا كل مأخذ. فعلم أحد أصدقاءه بهذا. فحض يوحنا أن يقيم كلامه حصناً يدرأ نار الاضطهاد فتردد يوحنا ثم أنشأ ثلاثة كتب في إطراء السيرة النسكية. لا تزال من أفضل ما صُنف في موضوعها.
ومن ثم ذهب إلى وادي العاصي وأوى إلى مغارة في الفترة ما بين (374-381). وعاد إلى أنطاكية بعد ست سنوات. مريض، فجسمه لم يقوى على التقشف. ورجليه أصبحتا ضعيفتين. يُخيل للناظر إليه أن لا لحم له ولا دم يجري في عروقه. ولم يدرِ وقتها أن الله افتقده لما رأى ثمره نضج وقد حان الوقت ليرفع صوته ويسطع نوره في أفق الكنيسة.
مولده وصباه: أبصر النور في أنطاكية بين سنتي 345 و349 إلا أن الدكتور أسد رستم يرجح ويقول أنه ولد في سنة 345. كان والده سكوندوس قائد القوات الرومانية في سورية. ووالدته القديسة أنثوسة. توفي والده في السنة الرابعة لزواجه وكان لديه ابنة وابن. فرفضت والدته أن تتزوج بعد ترملها. وتفرغت لتربية ولديها، تربية مسيحية خالصة. فكانت تربيتهم تنضح بعفة وطهارة وإخلاص القديسة اثنوسة. فقال بها الفيلسوف ليبانيوسالوثني: "ما أعظم النساء عند المسيحيين".
تهذيبه وتحصيله: درس يوحنا اللغة والبيان في مدرسة الفيلسوف ليبانيوس أشهر فلاسفة عصره ورئسي مدرسة أنطاكية. فأجاد القديس يوحنا اليونانية التي ساعدتها كثيراً في مواعظه وشروحاته. ولمس ليبانيوس مواهبه، فقال لتلاميذه مادحاً إياه: "لقد كان في ودي أن أختار يوحنا لإدارة مدرستي من بعدي ولكن المسيحيين سلبوه منا" إذ أن يوحنا أصبح قارئاً في الكنيسة في سنة 367. ودرس الفلسفة على يد انذورغاثيوس في أنطاكية أيضاً. وكان أكثر أصحابه المقربين باسيليوس الذي أصبح أسقف رفنية قريباً من مصياف.
زهده وورعه: امتهن يوحنا المحاماة وبهر أقرانه بفصاحته وبلاغته. ثم رغب فجأة بتركها. وكان ملاتيوس الجليل أسقف أنطاكية يرقب تقدم يوحنا في العلم والفضيلة. فلما تيقن من زهده أحله في دار الأسقفية ثلاث سنوات ثم منحه سر المعمودية ورقّأه إلى درجة القارئ. وكان بعض المسيحيون في ذلك الوقت يهابون سرّ المعمودية خوفاً من عواقب الوقوع في الخطيئة بعدها. فآثروا تأجيل ممارسة هذا السر حتى سن متأخرة. أما سبب تأجيل معمودية يوحنا فهو أمر غير معلوم إذ لا يوجد في المراجع ما يقدم لنا الجواب. وقد تكون أحداث أنطاكية هي التي تسببت في هذا التأخر.
وأراد يوحنا أن يخرج للصحراء للتعبد والصلاة والتأمل. إلا أن أمه طلبت منه أن يؤجل هذا حتى ترقد بالرب إذ لم يكن لها معيل غيره. فرضخ لطلبها، ويقول القديس في هذا الصدد: "ما كدنا -هو وباسيليوس- نبدأ بتنفيذ ما رمنا حتى تدخلت أمي، المحبوبة جداً، ضد المشروع. لقد أمسكت بيدي وقادتني إلى غرفتها الخاصة. وأجلستني، وجسلت قربي، على الفراش ذاته حيث شاهدتُ النور لأول مرة. وهنا فاضت دموعها وكانت زفراتها تقطع نياط قلبي وعباراتها العذبة الحنونة تمعن في التقطيع... ومما قالته لي: انتظر فراقي لهذا العالم، ربما يكون قريباً. لقد بلغت سناً لا يُنتظر معه إلا الموت. وعندما تعيدني إلى التراب، وتجمعني إلى أبيك، اذهب حيث تشاء؛ سافر إلى البعيد البعيد، إرم بنفسك في لجة اختيارك فعندئذ ليس من يمنعك. ولكن طالما أمك تتنفس وتتألم لا تتركها ولا تغضب الرب إلهك إذ تلقيني بلا مبرّر وبلا فائدة في لجج من الآلام أنا التي لم أصنع لك شراً. وتابعت: يا بني إذا استطعت أن تنسب لي أني أزيد همومك الحياتية فأنت حرّ من شرائع الطبيعة. دُسها برجليك ولا تأخذ بعين الاعتبار شيئاً واهرب مني كعدوة تنصب لك الكمين... إذا كنتُ صنعتُ بك شراً!!". وكان هذا الحادث بمثابة نقطة الثقل في حياته. من الأكيد الحصول على الطهارة المسيحية يفرض الهرب من العالم. هذه النجوة هي الطريق الأقصر نحو القداسة. ولكنه الذي يدوس برجليه كائناً إنسانياً -إذ يهرب من العالم- فإنه يسدّ على نفسه طريق القداسة إلى الأبد. ولكنه جعل من غرفته في المنزل قلاّية. وعاش حياة الراهب والابن في الوقت نفسه. فتقشف وكرس وقته للصلاة.
ثم أنشأ بالاشتراك مع باسيليوس صديقه أخوية نسكية ضمت بعض رفاقهما في التلمذة أمثال ثيودوروس أسقف موبسوسته فيما بعد ومكسيموس أسقف سلفكية سورية. وخضعت فيما يظهر إلى ديودوروس وكرتيريوس الراهبين الرئيسين في أنطاكية آنئذ.
الراهب: وفي سنة 373 غضب والنس جاش على الأرثوذكسيين فأكره النساك على الخدمة العسكرية والمدنية. واعتبر بعض المسيحيين أن تقشفات النساك ضرب من الجنون. فضحك الوثنيون على الطرفين. فأخذت الكآبة في نفس يوحنا كل مأخذ. فعلم أحد أصدقاءه بهذا. فحض يوحنا أن يقيم كلامه حصناً يدرأ نار الاضطهاد فتردد يوحنا ثم أنشأ ثلاثة كتب في إطراء السيرة النسكية. لا تزال من أفضل ما صُنف في موضوعها.
ومن ثم ذهب إلى وادي العاصي وأوى إلى مغارة في الفترة ما بين (374-381). وعاد إلى أنطاكية بعد ست سنوات. مريض، فجسمه لم يقوى على التقشف. ورجليه أصبحتا ضعيفتين. يُخيل للناظر إليه أن لا لحم له ولا دم يجري في عروقه. ولم يدرِ وقتها أن الله افتقده لما رأى ثمره نضج وقد حان الوقت ليرفع صوته ويسطع نوره في أفق الكنيسة.